ملخص المقال
الهجرة النبوية أما قبل مقال بقلم يوسف حمدان، يبين أهمية ودلالات طول فترة الإعداد في العهد المكي.. فما دلالات ذلك؟ وما أهمية طول فترة الإعداد في العهد
الناظر لخط الزمن في التاريخ الإسلامي، يلاحظ أن هناك مسافةً كبيرةً بين نقطة الانطلاق "البعثة"، ونقطة التحول لكيانٍ ودولة عبر "الهجرة"، هذه المسافة تستغرق أكثر من نصف الزمن الكلي للدعوة الإسلامية في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عامًا "فترة العهد المكي" كاملةً، وهو يبذل كل ما بوسعه من أجل تبليغ الرسالة، ونشر الدعوة انطلاقًا من "مكة"، لكنَّ "مكة" أظهرت من اللحظات الأولى عداءً وصدًّا وإيذاءً لهذا الدين وأتباعه.
بات واضحًا أن بذرة الدولة الإسلامية لن تنبت في مكة، فبدأ صلى الله عليه وسلم يبحث في البدائل المتوفرة حوله، فأخذ يعرض دينه ودعوته على القبائل المجاورة، والوفود الزائرة، ويبحث عن مكان تأوي إليه هذه الدعوة، فيؤسس الدولة كوسيلةٍ لتحقيق هدف الرسالة، ولم تكن تجربة "الطائف" هي الوحيدة في هذا الإطار، لكنها كانت الأصعب والأبرز والأخطر على مستقبل الدعوة.
لقد شكلت نقطة "الطائف" منخفضًا حرجًا في مسار الدعوة وخط بناء الدولة بالنظر إلى الطريقة التي تعاملت بها مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، حتى إنه صرَّح بذلك حينما سألته عائشة -رضي الله عنها- عن أصعب يومٍ مرَّ عليه فقال: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ..." (صحيح مسلم).
ومشاهد تعذيب المستضعفين من المسلمين في "العهد المكي" أكثر من أن تحصر، ولم تكن غائبةً عنه، ولم يكن هو بمنأى عنها، لكن المنهج كان واضحًا، فتراه يقول لعائلةٍ كاملةٍ تعذَّب في دين الله: "صبرًا آل ياسر"، ويقول لصحابيٍ يشكو من الأذى، ويستأذن في القتال والمواجهة: "إنَّا لم نؤمر بالقتال بعد".
لقد كانت فترة الاستضعاف في مكة مليئةً بالآلام والتضحيات والإيذاء من القريب والبعيد، ولحكمة ما طالت هذه الفترة حتى اقتربت لحظة الصفر، ونقطة التحول بقرار الهجرة إلى المدينة المنورة، فالسنوات الثلاث الأخيرة من حياة "العهد المكي" شهدت حراكًا سياسيًّا وتربويًّا ودعويًّا مكثفًا تجاه المدينة المنورة، ورغم أن "يثرب" كانت مستبعدةً جدًّا من حسابات المسلمين والمشركين؛ بسبب التركيبة الديمجرافية والعِرقية فيها وبُعد المسافة عن مكة، إلا أن الله تعالى أراد لها شيئًا آخر، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
فكانت بداية التحول في العام الحادي عشر للبعثة بإسلام ستة من "الخزرج"، وجهدهم في الدعوة في المدينة، وعودتهم في العام التالي وقد تضاعف عددهم، فيأخذ منهم النبي صلى الله عليه وسلم بيعةً عرفت في التاريخ باسم "بيعة النساء"، ذاك أنه لم يكن فيها تكاليف ولا أمرٌ بقتالٍ أو مواجهة، وأرسل معهم سفير المسلمين الأول مصعب بن عمير -رضي الله عنه- ليعلمهم دينهم، وعاد "مصعب" في العام التالي يحمل تقريرًا دعويًّا وتربويًّا وأمنيًّا وسياسيًّا عن المدينة "يثرب".
وفي موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة، تم ترتيب ميعاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم للقاء خمسة وسبعين من المسلمين، جاءوا ضمن "الوفد اليثربي"، لقد كان هذا اللقاء من أخطر اللقاءات أثرًا على مسار الدعوة، ولا نبالغ إذا قلنا إنه سيغير مجرى التاريخ، إنه لقاء "بيعة العقبة الثانية"، أو ما عرف باسم "بيعة الرجال".
الظروف الأمنية الحرجة التي عقد فيها اللقاء كانت تنم عن أهمية ما تم الاتفاق عليه في هذا اللقاء، لقد كانت "بيعةً" يتحول فيه الفرد المسلم العادي، إلى نموذج آخر من البذل والعطاء والتضحية لم تعرفه البشرية من قبل.
لقد بايعوا على "السمع والطاعة في المنشط والمكره، والنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد في سبيل الله، والنصرة والمنعة والحماية للمسلمين".
لا شك أنها شروطٌ صعبةً وثقيلةٌ، لكنها مرحلةٌ دقيقة، سيكون لها ما بعدها في خط الزمن الإسلامي، ولقد ظهرت أولي آثار هذه "البيعة" في الطريقة التي استقبلت بها المدينة جموع المهاجرين وكذا سيِّد المرسلين، وحِداؤهم "طلع البدر علينا".
فعلاً لقد طلع البدر في المدينة المنورة، ونبتت بذرة الدولة الإسلامية، وتشكَّل أول كيانٍ للمسلمين، ولكن طلع بعد ماذا؟... بعد ثلاثة عشر عامًا من التضحية والصبر والمصابرة، لتبدأ بعد الهجرة النبوية مباشرةً، مرحلةٌ جديدةٌ على ذات الطريق، هي مرحلةُ تأسيس الدولة، وإن شئت فقُلْ: هي مرحلةُ "التمكين.. أما قبل".
روابط ذات صلة:
- فقه النصر والتمكين
- الهجرة ومغزى الحياة
- الهجرة وصناعة الأمل
- في ظلال الهجرة النبوية
- من دروس الهجرة النبوية
- دروس وعبر من الهجرة النبوية
- الهجرة النبوية .. معناها وأهدافها
- الدروس المستفادة من الهجرة النبوية
- دروس من الهجرة .. عدم تعجل النصر
- الهجرة .. دروس حركية في القيادة والجندية
التعليقات
إرسال تعليقك